تفسىر سورة الاحقاف الأية : 15
وذهب الإمام ( أبو حنيفة ) رحمه الله إلى أن مدة
الرضاع المحرِّم سنتان ونصف ، ودليله قوله تعالى في سورة الأحقاف [ 15 ] : {
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون
شَهْراً . . . } الآية .
وله في الاستدلال من الآية الكريمة وجهان :
الوجه الأول : أن المراد بالحمل هنا ليس حمل الجنين
في بطن أمه ، وإنما حمله على اليدين من أجل الإرضاع فكأن الله تعالى يقول : تحمل
الأم ولدها بعد الولادة لترضعه مدة ثلاثين شهراً ، فتكون المدة المذكورة في الآية
الكريمة لشيءٍ واحد وهو الرضاع .
الوجه الثاني : أنّ الله سبحانه وتعالى ذكر في
الآية الكريمة أمرين وهما : ( الحمل ) و ( الفِصال ) ، وأعقبهما بذكر بيان المدة ،
فتكون هذه المدة لكلٍ من الأمرين استقلالاً ويصبح المعنى على هذا التأويل : حملة
ثلاثون شهراً ، وفصاله ثلاثون شهراً أي إن المدة لكلٍ منهما ( عامان ونصف ) وبذلك
يثبت أن مدة الرضاع عامان ونصف ، وهو كما إذا قال إنسان عليه دين ( لفلانٍ وفلان
عندي مائة إلى سنة ) فتكون السنة هي أجل كلٍ من الدَيْنَيْن ، وكذلك هنا تكون
الثلاثون شهراً مدة كلٍ من الحمل والرضاع . وهذا الرأي الذي ذهب إليه ( أبو حنيفة
) رحمة الله لم يوافقه عليه تلميذاه ( أبو يوسف ) و ( الإمام محمد ) بل قالوا بمثل
قول الجمهور وهو أن مدة الرضاع المحرِّم عامان فقط
.
الترجيح : ولعلنا بعد استعراض الأدلة نرجح قول
الجمهور ، لا سيّما وأنّ تلميذيه قد خالفاه فيما ذهب إليه ، ودليل أبي حنيفة وإن
كان وجيهاً إلا أن يحتاج إلى تكلفٍ في التأويل بخلاف دليل الجمهور . والله أعلم .
الحكم الثاني : كم هي مدة الحمل الشرعي؟
أجمع الفقهاء على أن أقل مدة الحمل هي ستة أشهر ،
وهذا الحكم مستنبط من قوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً } [
الأحقاف : 15 ] ومن قوله تعالى في الآية الأخرى { وفصاله فِي عَامَيْنِ } فمن
مجموع الآيتين الكريمتين يبتيَّن أن أقل مدة الحمل هي ستة شهور . . قال ( ابن
العربي ) في تفسيره : روي أن امرأة تزوجت فولدت لستة أشهر من يوم تزوجت ، فأتي بها
عثمان رضي الله عنه فأراد أن يرجمها ، فقال ( ابن عباس ) لعثمان : إنها إن
تخاصمْكم بكتاب الله تخصِمْكم ، قال الله عز وجل : { وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون
شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] وقال : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة . . . } [ البقرة :
233 ] فالحمل ستة أشهر ، والفصال أربع وعشرون شهراً ، فخلّى عثمان رضي الله عنه
سبيلها .
وفي رواية أنّ ( علي بن أبي طالب ) قال له ذلك .
قال ابن العربي : وهو استنباط بديع .
الحكم الثالث : هل يقتص من الوالد بجنايته على
الولد؟
ذهب الجمهور الفقهاء إلى أن الولد لا يستحق القوَد
على أحد والديه بجناية أحدهما عليه ، ولا يقتص منهما بسبب الولد ، كما لا يحدّ إذا
قذفه أحدهما ولا يحبس له بدين عليه .
ودليلهم أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالصحبة لهما
بالمعروف فقال { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً } وليس من المعروف أن يقتص
من الوالد للولد ، ولا أن يحبس في دينه ، ولا أن يحدّ إذا قذفه لأن ذلك كلّه مما
يتنافى مع صحبتهما بالمعروف . ولأنهما كانا سبباً في حياته ، فلا يصح أن يكون
الولد سبباً في إهلاك والديه . وقد جاء في الحديث ما يؤيد هذا حيث قال صلى الله عليه
وسلم ( لا يقاد للولد من والده ) .
الحكم الرابع : هل تلزم طاعة الوالدين في الأمور
المحظورة؟
قال العلامة القرطبي : ( إن طاعة الأبوين لا تراعى
في ارتكاب كبيرة ، ولا في ترك فريضة وتلزم طاعتهما في المباحات ، ونقل عن ( الحسن
) أنه قال : إن منعته أُمّه من شهود صلاة العشاء شفقةً فلا يطعها.
ثم قال : والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما
أمكن من المال إن كانا فقيرين ، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق . وقد قالت
أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم وقد قدمت عليها أمها من
الرضاعة فقالت : ( يا رسول الله إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة أفأصلها؟ قال : نعم ) .
وهذه الأحكام استنبطها العلماء من قوله تعالى : {
وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا
} فكما تحرم طاعة الوالدين في الشرك تحرم في كل معصية ، لأنه لا طاعة لمخلوق في
معصية الخالق .
وهذا المعنى قد سَنّه الخليفة الراشد ( أبو بكر )
رضي الله عنه في خطبته الأولى حين تولى الخلافة على المؤمنين . فكان فيما قال :
أما
بعد . أيها الناس : إني قَدْ وُلّيتُ عليكم ولستُ بخيركم ، فإن أحسنتُ فأعينوني
وإن أسأتُ فقوِّموني ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيتُه فلا طاعة لي عليكم .
الحكم الخامس : هل يصح سلوك طريق غير المؤمنين؟
ظاهر قوله تعالى : { واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ }
وجوب الاقتداء بالسلف الصالح وسلوك طريق المؤمنين ، وتحريم السير في اتجاه يخالف
اتجاههم كطريق المنافقين والكافرين . وقد صرّح بهذا المعنى في قوله تعالى : {
وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } [
النساء : 115 ] . فلا بدّ من الانضواء تحت رأية أَهل التوحيد والإيمان واتباع
سبيلهم ، فالخير كله في الاقتداء بهم ، والسير على منوالهم . ولقد أحسن من قال :
فكلّ خيرٍ في اتباع من سَلَف ... وكلّ شرٍّ في
ابتداعِ من خلَف
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1-
الحكمة
هبة إليهة لا تنال إلا بطريق التقوى والعمل الصالح
.
2-
شكر
النعمة واجب على المرء . ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله
.
3-
الشرك
من أعظم الذنوب ، وأكبر الجرائم عند الله وهو محبط للعمل
.
4-
طاعة
الوالدين من طاعة الله ، وبرهما مقرون بعبادة الله تعالى
.
5-
حق
الأم على ولدها أعظم من حق الأب لأنّ أتعابها عليها أكثر
.
6-
لا
تجوز الطاعة في المعصية . إنما الطاعة في المعروف كما بينَّه عليه السلام .
حكمة التشريع
أوصى الله تعالى بالوالدين إحساناً ، وأمر ببرّهما
وطاعتهما والإحسان إليهما ، وخصّ ( الأم ) بمزيد من العناية والاهتمام ، فجعل
حقّها أعظم من حق الأب ، لما تحملته من شدائد وأهوال تجاه طفلها الوليد ، ولما
قاسته من آلام في سبيل تربيته وحياته . فمن أحق بالعناية والرعاية من الأم؟! الأم
التي حنت عليه فغذته بلَبَانها ، وغمرته بحنانها ، وآثرته على نفسها وراحتها فشقيت
من أجل سعادته ، وتعبت من أجل راحته ، وتحمّلت الأثقال والآلام في سبيل أن ترى
وليدها زهرة يانعة ، تعيش بين أزهار الربيع ، فكم من ليلة سهرت من أجل راحته ،
لتطرد عنه شبح الخوف ، أو تزيل عنه ألم المرض ، وكم من ساعة قضتها بين جدران البيت
تحمله على يديها ، متعبة مثقلة لتواسيه في وقت شدته ومحنته . . . فهل يليق بعد كل
هذا أن يسلك طريق العقوق ، أو يجنح إلى الإساءة والعصيان
فحق الأم على ولدها عظيم ، وفضلها عليه كبير وجسيم
، إذ هي السبب المباشر في حياة هذا الطفل بعد الله عزّ وجلّ ، فلولا رعايتها
وحنانها ، ولولا تحملها المتاعب والآلام ، لَمَا تَربّى وليد ، ولا عاش إنسان
وقد أمر الله تعالى بشكر الوالدين ، وطاعتهما
وبرّهما حتى ولو كانا ( مُشْركَيْن ) ، ولكنّه جلّ ثناؤه حذّر من اتّباعهما
ومسايرتهما في أمر الكفر والإشراك { وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } إذْ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الله عز وجلّ
. . فطاعتهما مشروطة بطاعة الله ، وفي الحدود التي يقرّها الشرع الحنيف ، ولا يكون
فيها تضييع لحق الخالق ، أو حقّ المخلوق ، فشكرُ الوالدين من شكر الله ، وطاعتهما
- فيما ليس فيه معصية - من طاعة الله!! وصدق الله حيث يقول : { وَوَصَّيْنَا
الإنسان بوالديه إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً
وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] .
Comments
Post a Comment